وقار العمر… ومعنى أن تبقى الحكمة حيّة

يشهد إقليم شرق المتوسط، كما سائر مناطق العالم، تحوّلا ديموغرافيا متسارعا، إذ تتزايد أعداد كبار السن عامًا بعد عام نتيجة لتحسّن الرعاية الصحية وارتفاع متوسط العمر. هذه الظاهرة التي كانت تُعدّ سمةً للدول المتقدمة، باتت اليوم ملمحًا واضحًا في دولنا العربية وفي الإقليم الأوسع الممتد من المغرب حتى باكستان وأفغانستان، حيث يعيش الملايين من الآباء والأمهات أطول مما عاشته الأجيال السابقة، لكن في واقعٍ اجتماعي واقتصادي مختلف عمّا عرفوه.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 5.6% من سكان الإقليم تجاوزوا سن الخامسة والستين، وهي نسبة يُتوقع أن ترتفع إلى أكثر من 10% بحلول عام 2050. ففي لبنان وتونس تبلغ النسبة قرابة 10%، بينما تصل إلى نحو 7% في الأردن والمغرب ومصر، وتنخفض إلى 3–4% في السودان واليمن وباكستان وأفغانستان. هذه التباينات تعبّر عن اختلاف مستويات التنمية والخدمات الصحية، لكنها في مجملها تعكس مسارًا مشتركًا نحو مجتمعاتٍ أكثر نضجًا في العمر وأكثر حاجة إلى سياساتٍ تواكب هذا التحوّل.

أما في الدول المتقدمة، فتقدّم الصورة منظورًا آخر؛ إذ تجاوزت نسبة كبار السن 22% في اليابان وإيطاليا، و20% في ألمانيا وفرنسا، ما جعل تلك الدول تعيد هيكلة أنظمتها الصحية والاجتماعية جذريًا، وتبتكر نماذج جديدة في الرعاية طويلة الأمد والشيخوخة المنتجة. وتُظهر هذه المقارنة الفارق بين من يخطط للمستقبل استباقيًا، ومن لا يزال في طور الاستعداد لموجة عمرية آتية لا محالة.

وفي الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، حين يحتفي العالم بـ اليوم الدولي لكبار السن، لا يقتصر الأمر على مظاهر رمزية، بل يشكّل فرصة حقيقية للتأمل في مكانة الكبار في حياة مجتمعاتنا. ففي زمنٍ يركض فيه كل شيء بسرعة، من التكنولوجيا إلى العلاقات الإنسانية، يُذكّرنا كبارنا بأن في البطء جمالًا، وفي الصمت حكمةً، وفي التجربة دروسًا لا تُشترى.

إنّ التحوّل الديموغرافي في منطقتنا يترك أثرًا مباشرًا على الأنظمة الصحية، إذ ترتفع معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، إلى جانب ازدياد الأمراض الذهنية والنفسية مثل الاكتئاب والخرف واضطرابات الذاكرة، التي غالبًا ما تُهمل في السياسات الصحية رغم أثرها الكبير على جودة الحياة. ومع تقدّم العمر وتبدّل الأدوار الاجتماعية، تتضاعف الحاجة إلى برامج متكاملة تراعي الصحة النفسية والاجتماعية للمسنّين إلى جانب الرعاية الطبية.

ويستدعي هذا الواقع تطوير برامج الرعاية الصحية الأولية لتصبح أكثر تكاملًا واستدامة، وتعزيز خدمات الرعاية طويلة الأمد، والتوسّع في برامج التأهيل والرعاية المنزلية، وتمكين الأسر من دعم كبارها في محيطهم الطبيعي. إنّ الشيخوخة السليمة ليست مسؤولية طبية فحسب، بل مسؤولية اجتماعية واقتصادية وأخلاقية تتشاركها الحكومات والمجتمعات والأسر على حد سواء.

ورغم اختلاف مستويات الدخل بين دول الإقليم، من دولٍ ذات نظم صحية متقدمة كقطر والإمارات والبحرين، إلى دولٍ تعمل جاهدة لتقوية خدماتها مثل الأردن ومصر والمغرب وباكستان واليمن، فإنّ الرابط المشترك بينها جميعًا هو احترامها العميق لقيم الأسرة والتكافل والبرّ بالكبار. هذه القيم، المتجذّرة في ثقافتنا، تشكّل رأس مالٍ اجتماعيًا لا يُقدّر بثمن، ويجب حمايته في وجه التغيرات المتسارعة في أنماط الحياة.

ولعل أجمل ما يميّز مجتمعاتنا العربية والشرقية هو هذا الاحترام الفطري للكبار، الذي يظهر في لغتنا قبل سلوكنا: “عمّي”، “خالتي”، “سيدي”، “حجّة”. كلماتٌ بسيطة، لكنها تختصر قرونًا من المودة والوفاء. فمهما تغيّر الزمن، تبقى هذه اللغة شاهدًا على عمق الأخلاق التي تمنح الكبار وقارًا، وتُلبسهم هيبةً من المحبة لا من الخوف.

إن كبارنا ليسوا ظلًا للماضي، بل جذوره التي تروي الحاضر. هم الذين بنوا وربّوا وأخلصوا، وحافظوا على تماسك الأمة في أصعب المراحل. وحين نكرمهم اليوم، فنحن في الحقيقة نكرم أنفسنا، ونصون المعنى الإنساني فينا قبل أي شيء آخر.

كل التقدير والامتنان لكبارنا في كل بيتٍ وقريةٍ ومدينةٍ من هذا الإقليم الواسع…

فهم الذين علّمونا أن الحياة لا تُقاس بطول السنوات، بل بعمق الأثر، وبصدق العطاء حين يمر الزمن بوقارٍ وصمتٍ نبيل.

نشر هذا المقال في صحيفة الرأي