في الآونة الأخيرة، بات الخطاب الصحي في منطقتنا يركز بشكل متزايد على مواجهة التحديات الناجمة عن الطوارئ الصحية، سواء تلك المرتبطة بالصراعات المستمرة، أو الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، أو الكوارث البيئية المتسارعة. ورغم أهمية الاستجابة الفورية لهذه الأزمات، فإن التركيز المفرط عليها لا ينبغي أن يحجب الرؤية عن التحديات الهيكلية التي تعاني منها الأنظمة الصحية، سواء في الدول التي تعيش أزمات مستمرة أو حتى في الدول الأكثر استقرارًا. فمن الضروري إدراك أن التفاوت في الناتج المحلي الإجمالي أو مستوى الدخل الفردي، بل وحتى الاستقرار السياسي، لا يترجم بالضرورة إلى تحسن في المؤشرات الصحية، إذ إن التحديات الصحية تظل قائمة، بغض النظر عن مستوى التنمية الاقتصادية للدولة وبعدها عن مناطق النزاع.
فعلى سبيل المثال، تسجل دول المنطقة معدلات مقاومة مضادات الميكروبات من بين الأعلى والأسرع نموًا عالميًا، كما تشهد المنطقة ارتفاعًا متسارعًا في معدلات الأمراض غير السارية، لا تزال معظم دول المنطقة تواجه تحديات جوهرية في تحقيق التغطية الصحية الشاملة ويبرز بالمقابل توجه غير مستدام نحو الإنفاق المفرط على المعدات الطبية والتكنولوجيا المتقدمة، مما يرسّخ هيمنة الرعاية العلاجية المعقدة على حساب نهج أكثر استدامة يركز على الوقاية و الرعاية الصحية الأولية وتعزيز الصحة العامة.
إلى جانب ذلك، تمثل هجرة الكوادر الصحية تحديًا استراتيجيًا يهدد استقرار الأنظمة الصحية في العديد من دول المنطقة. ووفقًا لأحدث تقارير منظمة الصحة العالمية حول القوى العاملة الصحية، فإن دولًا مثل ، السودان، واليمن، أفغانستان، جيبوتي، باكستان ، تأتي ضمن قائمة البلدان الأكثر تضررًا من نزيف الكفاءات الصحية. وتظهر الإحصاءات الوطنية اتجاهًا مقلقًا لهجرة الأطباء في تونس، المغرب، الجزائر، ولبنان، مما دفع إلى عقد المؤتمر العربي الأول حول دور الكفاءات الصحية العربية المهاجرة في دعم النظم الصحية بالدول العربية، بهدف تعزيز التعاون الإقليمي ووضع استراتيجيات للحد من هذه الظاهرة.
وفيما يتعلق بتبني التكنولوجيا في المجال الصحي، فقد شهدت بعض دول المنطقة تقدمًا ملحوظًا في استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض التنبؤ بالأوبئة وتشخيص الأمراض وتحليل النظم الصحية، إلا أن الفجوة الرقمية لا تزال واسعة بين الدول، مما يعزز التفاوت في فرص الوصول إلى الرعاية الصحية المتقدمة. ففي حين تواصل بعض الدول الاستثمار في التحول الرقمي، تظل الدول الأفقر والأكثر تأثرًا بالنزاعات محرومة من هذه التطورات بسبب محدودية الموارد، وهو ما يعرقل تحقيق العدالة الصحية في المنطقة.
إن مواجهة هذه التحديات تتطلب إصلاحات جوهرية تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد زيادة الموازنات المخصصة للقطاع الصحي. فالإصلاح لا يُقاس بحجم التمويل وحده، بل يعتمد على سياسات حصيفة، وإدارة رشيدة للموارد، وتعزيز الحوكمة والتنظيم، إضافة إلى تبني استراتيجيات تركز على الوقاية وتعزيز الصحة المجتمعية، بدلًا من الاستمرار في النهج العلاجي الباهظ التكاليف.
ورغم تعقيد تصميم الإصلاحات الصحية وتطبيقها على أرض الواقع بسبب تشابك العوامل المؤثرة فيها، فإنها ليست مستحيلة التنفيذ. فقد شهدت المنطقة تجارب ناجحة في هذا المجال، حيث عملت العديد من الدول على إصلاح أنظمة التأمين الصحي، لا سيما في منطقة الخليج. كما أحرزت دول مثل المغرب وتونس تقدمًا ملحوظًا في تطوير نظم إدارة المعلومات الصحية، بينما تبنت الكويت والإمارات والمغرب أنظمة رقمية متقدمة لتحسين الخدمات الصحية. أما السعودية، فتتبنى في إطار رؤية 2030 نهجًا شاملًا يعزز خدمات الرعاية الصحية الأولية ويضع الصحة في قلب التنمية المستدامة. وفي الأردن، تمضي الإصلاحات قدمًا نحو تحسين معايير الاعتماد والتنظيم الصحي، في حين تنفذ دول مجلس التعاون الخليجي، مبادرات تهدف إلى تعزيز خدمات الرعاية الصحة الأولية. وهذه مجرد نماذج للجهود المبذولة وليست حصرًا لها.
إن مستقبل الصحة في منطقتنا يعتمد على قدرتنا على إعادة توجيه السياسات الصحية نحو نهج أكثر استدامة، يُوازن بين الاستجابة الفورية للأزمات وتعزيز بنية تحتية صحية قوية على المدى البعيد. ويتطلب تحقيق ذلك التزامًا جادًا واستثمارًا مستدامًا من الحكومات، ونهجًا قائمًا على الابتكار والتنمية الصحية. فالتغيير ليس خيارًا، بل ضرورة تفرضها التحديات المتسارعة، ومن دون تبني رؤية إصلاحية حقيقة و جريئة، ستظل الأنظمة الصحية في منطقتنا عالقة بين الاستجابة اللحظية للأزمات و الاستخدام غير المدروس في التكنولوجيا المتطورة في مناطق اخرى والعجز عن تحقيق تقدم استراتيجي مستدام.