بيروت هذا المساء الجميل

«ذكريات عبرت أفق خيالي بارقاً يلمع في جنح الليالي»، بهذه الأبيات العذبة بدأ الشاعر الكبير أحمد رامي قصيدته التي تعبر عن حبه وحنينه للأيام الخوالي، والتي غنتها السيدة أم كلثوم لاحقاً. بالنسبة لي، هذه الأبيات ليست مجرد كلمات عذبة، بل انعكاس لحب أبدي لمدينة بيروت، المدينة الساحرة التي استحوذت على قلبي و عقلي بروحها ونبضها الثقافي. إنها مدينة الذكريات التي شكلت و صقلت جزءاً من شخصيتي وفكري، وهي التي احتضنتني خلال دراستي في الجامعة الأمريكية، حيث عشت أجمل اللحظات وأعمقها.

عندما وطأت قدماي بيروت في بداية ثلاثينياتي، كنت مليئاً بالطموح والرغبة الشديدة في التعلم. شعرت بفخر كبير عند تجوالي في رحاب الجامعة الأميركية، ورؤية قائمة المتفوقين التي ضمت أسماء من كافة أقطار العالم. تلك التجربة ألهمتني وجعلتني أشعر بفخر عميق وانتماء حقيقي. كيف يمكن نسيان تلك اللحظات التي جعلت قلبي ينبض بالفخر الوطني كانت تلك اللحظات أشبه بإيقاظ الروح لبدء رحلة جديدة نحو المعرفة والنضج.

بيروت كانت دائماً موطناً لأبرز الشخصيات الوطنية التي درست في الجامعة الأميركية، مثلا وليس على سبيل الحصر دولة عبدالرؤوف الروابدة، دولة العم الدكتور عبدالله النسور، الدكتور عبدالله العويدي، المرحوم المهندس ليث شبيلات،، ومعالي ريما خلف. هؤلاء الشخصيات الأردنية المميزة كانوا لي دائماً مصدر إلهام وفخر، جعلوني أشعر بأنني جزء من تاريخ وطني مشرف وتجسيداً لفلسفة الانتماء والارتقاء.

في بيروت، تعلمت معنى حرية الرأي وتقبل الآخر. تعلمت أن الحضارة تُبنى على احترام الاختلافات وتفاعل الإنسان مع الواقع بالاحترام المتبادل. كانت لي فرصة للغوص عميقاً في بحار الكتب، مما عمق لدي القدرة على التفكير التحليلي العلمي ومحاكاة الواقع. كانت هذه التجربة رائدة بامتياز، حيث شعرت بأنني أكتشف عالماً جديداً وأعيد صقل فكري وفق معايير أرقى وأعمق. هذا العمق الثقافي أثرى وطنيتي وشعوري بالانتماء، في كل زاوية من زوايا بيروت، وجدت درساً فلسفياً عن الحياة والوجود.

دراستي في الجامعة الأميركية في بيروت كانت فرصة حياتية عظيمة. بالاضافة الى استاذتي المميزين في كلية الصحة العامة، تعلمت من قامات علمية وفلاسفة كانوا يزورن الجامعة خلال فعاليات مختلفة مثل إدوارد سعيد، سميح القاسم، مارسيل خليفة، وأحمد قعبور. هؤلاء الأعلام أثروا في ثقافتي بعمق، الدكتور مصطفى البرغوثي، سعادة طلال ابو غزالة وكان لتفاعلهم معنا و زملائي أثر لا يُنسى. زياراتي لمكتبة لبنان القريبة من الجامعة، حيث استطعت سبر أغوار كتب لم تكن متاحة لي في عمان، عززت لدي فكرة أن الاختلاف هو فرصة للتعلم والنمو.

تعمقت في بيروت على التجارب السياسية العربية واللبنانية. شهدت تحرير مزارع شبعا، وخروج الجيش السوري من لبنان، وعودة الحكيم سمير جعجع والجنرال ميشال عون من المنفى. عايشت سلسلة من الاغتيالات المؤلمة، أبرزها اغتيال الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط، وما تبعه من انقسام سياسي. كانت هذه الأحداث تحمل مشاعر متضاربة من الأمل والألم، وكانت شاهدة على التاريخ المتقلب لهذه البلد العريقة. كل حدث سياسي كان درساً في الفلسفة العملية، علمني أن التاريخ لا يصنعه الأفراد فقط، بل تصنعه إرادة الشعوب وتضحياتهم.

التنوع السياسي والثقافي و الديني في لبنان أثرى تجربتي السياسية وعزز مبادئ الديمقراطية لدي. كانت لي لقاءات مع أعضاء من مختلف التيارات السياسية، و من كافة الطوائف والديانات، مما جعلني أقدر جمال التعددية وأثرها الإيجابي. هذا التنوع الوطني والديني والطائفي أثرى تجربتي السياسية، حيث جمعتنا علاقات رصينة ووازنة.

زرت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين مثل مخيم عين الحلوة والنهر البارد، واطلعت عن كثب على واقع هذه المخيمات وما يعانيه قاطنيها. كانت هذه الزيارات مؤثرة للغاية، حيث شعرت بعمق المأساة والأمل في آن واحد.

ستبقى بيروت عاصمة الأدب والثقافة والدراسة، رغم مكوناتها و تناقضاتها السياسية و الاجتماعية والحزبية الصاخبة. لا يمكنني نسيان تلك الأيام التي قضيتها في ربوع هذه المدينة الجميلة، وما تعلمته من قيم و معرفة أثرت بعمق في مسيرتي الشخصية والمهنية. بيروت ستبقى دائماً في قلبي، نبضاً حياً يشهد على تاريخ حافل وتجربة لا تُنسى.

نشر هذا المقال في جريدة الرأي الأردنية