كتبت كثيرًا عن أوطان وقضايا، لكنني لم أكتب من قبل عن باكستان، رغم عمق علاقتي بهذا البلد الجميل، ومكانته الراسخة في مسيرتي المهنية والإنسانية. بلدٌ كثيرًا ما أسيء فهمه أو استُهين بإمكاناته، بينما هو في الحقيقة ينهض بصمت، ويُنجز بثبات، ويتقدّم خارج عدسات الضجيج.
دفعني إلى هذه الكلمات ما قرأته عن صائمة سليم قبل بضع شهور، الدبلوماسية الكفيفة التي تمثل باكستان في الأمم المتحدة، والتي تحولت إلى رمز للتمكين والجدارة. هي ليست استثناءً، بل انعكاس لمجتمع يكافح ويصنع الفارق رغم التحديات. و من ثم الرد العسكري الرادع على الهند، و اخيرا معاهده الدفاع المشترك مع دولة السعودية.
بدأت علاقتي مع باكستان عام 2002، وزرت مدنها من الجنوب إلى الشمال: إسلام آباد العاصمة الأنيقة، كراتشي الاقتصادية الصاخبة، لاهور الثقافية، وميربور خاص وتاباركار حيث كرم الضيافة والتنوع. في كل محطة لمست شعبًا نقيًا وصبورًا، يقترب تعداده من 240 مليون نسمة ويُعد من أكبر المجتمعات المسلمة في العالم.
المرأة في باكستان فاعلة وليست متفرجة. فقد نفذت آلاف العاملات في برنامج الصحة الريفية مهام بطولية للوصول إلى القرى النائية، ووفرت الرعاية والتطعيم، مما شكل نموذجًا عالميًا في الصحة المجتمعية. وعلى المستوى السياسي، وقفت باكستان في طليعة العالم الإسلامي حين انتخبت بناظير بوتو عام 1988 كأول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في دولة مسلمة، في سابقة تاريخية سبقت دولًا أكثر تقدمًا في ديمقراطيتها.
الثقافة الباكستانية مزيج غني من الفارسية والهندية والإسلامية. ترك محمد إقبال إرثًا شعريًا وفلسفيًا عميقًا، وأنجبت باكستان عبد السلام، الحائز على نوبل في الفيزياء، وعبد القدير خان، الأب الروحي للمشروع النووي. الأخير قاد برنامجًا تاريخيًا جعل باكستان عام 1998 أول دولة إسلامية تنضم للنادي النووي.
كما أن باكستان دولة عسكرية بامتياز؛ فجهاز استخباراتها يُصنَّف ضمن الأقوى عالميًا، وجيشها معروف بانضباطه، وسلاح طيرانها بين الأبرز كفاءة في المنطقة. وبرغم هذه القوة الصلبة، لم تغفل عن مسار التنمية. ورغم شح الموارد وضغط الكثافة السكانية الهائلة، تدفع باكستان بثبات نحو التعليم، الصحة، والخدمات المجتمعية، لتؤكد أن الأمن والتنمية جناحان متكاملان.
إقليميًا، لم تنل باكستان دائمًا ما تستحقه من الاعتراف. فقد قدمت مساعدات إنسانية وتقنية في الكوارث والأوبئة، واستقبلت ملايين اللاجئين الأفغان لعقود. وترتبط بعلاقات تعاون عسكرية وتدريبية مع دول إسلامية عديدة، من بينها الأردن، خصوصًا في مجال السلاح الجوي. وعلى الصعيد الأخلاقي، ظلت مواقفها تجاه القضية الفلسطينية ثابتة ومبدئية، تُترجم بمنح دراسية ودعم ملموس للطلبة الفلسطينيين.
أما الضيافة الباكستانية فهي شعر يُترجم في الشاي، في البرياني، في الكرم الذي لا يعرف الاكتفاء. لطالما ترددت في ذهني العبارة الشعبية: “كُل قليلاً بعد”، كناية عن محبة لا تعرف حدودًا.
باكستان ليست دولة تُجيد الترويج لنفسها، لكنها تترك أثرها في هدوء. أنا فخور بأصدقائي وزملائي الباكستانيين، وبما يمثلونه من قيم في عالم يضج بالصخب والادّعاء. فلننظر إلى باكستان لا بما مرّت به من صراعات، بل بما تمتلكه من طاقات وما تحققه من تحولات.
أنا أحب باكستان. أؤمن بشعبها. وأثق أن القادم يحمل لها الأفضل.
نشر هذا المقال في صحيفة الرأي